الشفقه من وجهة نظر فلسفيه
لقد داب كثير من الفلاسفه علي تصوير الذات بصورة القوقعه المغلقه او القلعه الحصينه وكأن الانا يحيا في عزلة مطلقه او وحده صلبه متينه !ولعل من هذا القبيل مثلا ما ذهب اليه ليبنتس حينما جعل من الذات جوهرا فردا او ذره روحيه ، وكانما هي عالم مستقل ليس له ابواب او نوافذ وهذا ما كده ماكس شتيرنر الفيلسوف الالماني بصوره اعنف حينما اعتبر "الانا " هو "الاوحد " وجعل العالم نفسه مجرد ملكيه له ، وكأن الذوات الاخري هي مجرد موضوعات يسيطر عليها ويتمتع بها ولكن كل هؤلاء الفلاسفه قد نسوا او تناسوا ان الانفصال بين الذوات ليس هو الكلمه النهائيه في قصة الوجود البشري ، وانما هو مجرد مظهر من مظاهر تاكيد الذات لحريتها واصالتها واستقلالها عما عداها من الذوات وصراع الحريات واستحالة تلاقي الشخصيات الا ان تجربتنا العاديه تشهد نفسها بان الوجود الحقيقي بالنسبه الينا انما هو ضرب من التلاقي . حقا ان هذا التلاقي قلما يخلو من مواجهه وتحد وصراع ولكن من المؤكد انه يقترن ايضا بالكثير من مظاهر التجاوب والتبادل والوصال . ومهما زعمت لنفسي انني لا افهم الاخرين وان الاخرين لا يفهمونني فانني لن استطيع ان انكر انني ادرك بطريقه مباشره في ابتسامة الاخر سروره وفي دموعه حزنه وفي احمرار وجنتيه خجله وفي نظرته الرقيقه حبه وفي اصطرار اسنانه غضبه او حنقه وفي قبضة يده المتوعده رغبته في الانتقام وفي كلمته معني ما يريد ان يقوله اجل ان من شان الموجود البشري في كثير من الاحيان ان يتمنع فلا يفتح ذاته امامي او ان يتصنع فلا يظهر حقيقة نفسه علي مراي و مسمع مني ولكن الالم لابد من ان يجئ فيضطر الذات الي التعبير عن نفسها ويقهرها علي التخلي عن شتي اساليب التمنع او التصنع او الافتعال . وهكذا تنكشف لنا الذات المتالمه بصورة للانا الاعزل فلا نملك سوي ان نقبل عليها ، ونبادر الي مساعدتها ونعمل علي الاخذ بيدها . واذا كان من شان الالم في العاده ان يقربنا من الاخرين فذلك لان شقاء الموجود البشري ينكشف لنا بكل قسوه في لحظة تالمه . وبالتالي فاننا نجد انفسنا مدفوعين الي مشاركة الاخرين في الامهم مشاركه ايجابيه مباشره . واذا كان البعض قد داب علي اعتبار الالم مجرد حاله سلبيه ،فان شوبنهور ينسب الي الالم حاله ايجابيا بدعوي ان اللذه نفسها ليست سوي حالة امتناع الالم ولعل هذا هو السر في اننا قلما نعلو علي ذاتنا الخاصه او نتخلي عن مصالحنا الشخصيه اللهم الا حين تجئ الام الاخرين فتنزعنا بكل قسوه من مشاغلنا الصغيره وهمومنا التافهه لكي تفتح اعيننا علي حقيقة امر هذا الوجود البشري بما فيه من شرور ومصائب ومحن وشقاء حقا ان الاخرين ايضا يتمتعون ويغتبطون ويفرحون ولكن سعادة الغير لا تولد لدينا سوي الحسد والضغينه ولعل هدا ما اراد جان بول ان يعبر عنه حينما كتب يقول انه اذا كان في استطاعة البشر ان يشاركوا الاخرين الامهم فان الملائكه وحدهم هم الذين يستطيعون هم وحدهم الذين يستطيعون ان يشاركوا الاخرين افراحهم وحين يقع الاخرين صرعي لهجمات الشر والمرض والالم والشقاء فهنالك تتفتح لهم قلوبنا وتزول ما بيننا وبينهم من حواجز اذ نشعر ان الامهم هي الامنا وان شقاءهم هو شقاءنا . وتبعا لذلك فان الانانيه لا تتوقف الا حيث تبدا الشفقه لان مشاركتي لالام الاخرين هي التي تجئ فتسد كل هوه تفصلني عن الاخرين وتسقط كل حجاب يتوسط بيني وبينهم . وهكذا يرتفع الانسان عن طريق الشفقه فوق مبدا التفرد اذ يستشعرالالم العام (الم النباتات والم الحيوانات والم البشر ) فلا يلبث ان يدرك ان الوجود باسره كله وحد وان ارادة الحياه التي تعمل عملها في نفسه هي بعينها تلك الاراده العامه التي تتردد لدي كل مخلوق اخر . وعندئذ لا يلبث الموجود الفردي ان يهتف قائلا انك ايها الاخر لست غيري فما انا الا انت .ولسنا نريد ان نخوض في فلسفة الفيلسوف الالماني شوبنهور ولكن حسبنا ان نقول ان الشفقه عنده هي طريق الخلاص او سبيل النجاه وتسمح له بان يهتك نقاب المايا وتعينه علي التحقق من ان الام العالم ايضا هي ايضا الامه . فالشفقه عنده صوره من صور المحبه لانها تحرر من الفرديه وعبور لتلك الهوه الاليمه التي تفصلنا عن الاخرين وادراك لوحدة الانسانيه بل لوحدة الوجود نفسه بصفة عامه .
والمهم في مدهب شوبنهور انه يحاول استخلاص المحبه من الشفقه فنراه يقرر اننا لا نحب الاخرين الا بقدر ما نراهم يتالمون وبالتالي بقدر ما نتعاطف معهم ونحنو عليهم تحت تاثير تلك الالام نفسها. ومعني هذا ان للحب طابع الشفقه والرحمه والاحسان بدليل ان ما يولده او يستثيره انما هو الالم الذي يعانيه الاخرون .وكثيرا ما يكون تاثرنا بالام الاخرين سببا في اقبالنا عليهم وتجاوبنا معهم وعنايتنا بهم واحساننا اليهم . فالمشاركه المباشره في الام الاخرين هي الاصل في كل محبه وهي السبيل الوحيد الي القضاء علي الانانيه . وليس من النادر ان ياتي حب الرجل للمراه او حب المراه للجرل علي اعقاب شعور حاد بالشفقه كما هو الحال مثلا حينما يقترن رجل بامراه تعرفوا علي بعضهم بطريق الصدفه وحدث اشفاق من احدهما علي الاخر لاسباب مختلفه . وفي مثل هذه الحاله يجئ الحب بمثابة نتيجه لعاطفة الشفقه وهكذا تتلاقي الشفقه والمحبه فوق صعيد القيم الاخلاقيه العليا بعد ان انصهرتا معا في بوتقة الالم والعذاب والشقاء الروحي
بيد اننا لا نستطيع ان نسير الي نهاية الشوط فاننا نلاحظ مع الاسف ان الشفقه تكون في بعض الاحيان خلوا من كل دلاله اخلاقيه .بدليل ان عدد غير قليل من المشتغلين بمهن التطبيب والتمريض والجراحه وتخفيف الام الانسانيه لم يقبلوا علي هذه المهن لميلهم الدفين لرؤية الالام والماسي البشريه عن قرب .حقا ان بعض هؤلاء قد لا يكونون علي بينه بحقيقة البواعث التي تدفعهم الي احتراف تلك المهن او هم قد يظنون بكل اخلاص انهم انما يؤدون واجبا نبيلا بدافع الانسانيه والشفقه . لكن من المؤكد مع ذلك انه قد يكون من الخطا الجسيم ان نوحد بين الشفقه ومجرد حب الالم وربما كان في وسعنا ان نمضي الي حد ابعد من ذلك فنقول بكل صراحه ان الشفقه قد تكون في بعض الاحيان مظهرا من مظاهر الانانيه لانني اتعزي عن الامي الخاصه حينما اري الام الاخرين فيكون اشفاقي عليهم مجرد صدي لاشفاقي علي نفسي ونحن نجد عند شوبنهور نفسه موقفا لا يخلو من قسوه بازاء الام الاخرين فانه لم يكن يستطيع ان يخفي سروره عند استلامه لرسائل اصدقاءه الفائضه بالشكوي لانه كان يري انها كانت دليلا علي صحة مذهبه ولم يجانب نيتشه الصواب حينما قال ان الشفقه قد تنطوي في بعض الاحيان علي ضرب من الاذلال للشخص الذي نشفق عليه لاننا قد نشعره بانه اضعف او ادني منه .فالشفقه قد تحمل معاني الاستعلاء خصوصا حينما نجرح كرامة الشخص الضعيف الذي نعطف عليه او نرثي له .ولعل هذا هو السبب في ان كثيرا من الناس الذين يتالمون او يتعذبون يفضلون في كثير من الاحيان الابتعاد عن اعين الغرباء حتي لا يراهم الاخرون وهم في حالة ضعف او معاناه . وهذا ما فطن اليه نيتشه حينما قال علي لسان زرادشت لقد غمرني الخجل الشديد حينما وقعت عيناي علي منظر رجل شقي يتالم فقد شعرت بالخزي قد استولي علي مجامع قلبه وحينما مددت اليه يد المعونه ادركت انني انما اجرح كبرياءه ولكن هذا الحكم الدي يصدره نيتشه علي الشفقه بصفه عامه قد لا يصدق الا علي نوع بعينه من الشفقه الا وهو ذلك النوع الذي يجئ خلوا من الحب ومن هنا فان ماكس شيلر يقرر ان ما يجعل الشفقه امرا محتملا او مقبولا انما هو الحب الذي قد ينطوي عليه . واما حينما يفطن الشخص الذي نشفق عليه الي انه ليس موضوعا لعطفنا من حيث هو فرد مشخص بل باعتباره مجرد نموذج لموضوع عام هو الانسانيه او الوطن او الطبقه او الفئه التي ينتسب اليها . فهنالك لابد للشفقه من ان تولد في نفسه مشاعر الخزي و العار والخجل .معني هذا ان كل تعبير عن الشفقه لا تشيع فيه امارات الحب سرعان ما يتحول الي ضرب من القسوه او الوحشيه في نظر الشخص الذي يكون موضوعا له
وللحديث بقيه