خلال المدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية نشأ علم النفس السياسي (السايكولوجيا السياسية) وهو علم يجمع علم النفس إلى علم السياسة وكان نشوؤه تعبيراً عن حاجة فرضتها ظروف المرحلة التي شهدت اضطرابات وحالة من عدم الاستقرار على المستوى الدولي وظهرت النظم التي وصفت بالشمولية وخاصة النظامين النازي في المانيا والفاشي في ايطاليا وما رافق ذلك من ازمة اقتصادية عالمية كانت تدفع العالم بين حين وآخر الى حالة الحرب حتى كان عام 1939م فدخلت البشرية وخاصة المجتمعات الغربية أتون حرب مدمرة جديدة. وكانت الغاية من نشوء هذا العلم فهم السلوك السياسي باستخدام طرق علمية وقد ساعدت على ذلك زيادة المعلومات واضطراد الثقة بالطرق العلمية وسرعة التطورات التقنية وظهور وسائل اعلام متطورة استخدمت في مجال الدعاية، كل ذلك دعا الى ضرورة الحصول على مزيد من المعلومات عن حقيقة العلاقة بين العمليات السياسية والنفسية. رعى ولادة هذا العلم (شارك مريام) أستاذ السياسة في جامعة (شيكاغو) ويعد تلميذه (هارولد.د.لاسويل) مؤسس هذا العلم الذي يقوم على اسس علمية ويستمد وحيه من علم النفس. أصدر (لاسويل) العديد من المؤلفات في هذا المجال بين عامي 1930-1948 منها علم النفس المرضي (السايكوباتولوجيا) و(السياسة والقلق الشخصي) واجتهد (لاسويل) في كتابه ان يبين أسرار السلوك السياسي وقد اكد على انه مجال السيكولوجيا السياسية هو دراسة التفاعل بين العمليات السياسية والسيكولوجيا أي تأثير العمليات السيكولوجية في العمليات السياسية. ان القوى العقلية تحدد طبيعة صنع القرار السياسي وتؤثر فيه كذلك طبيعة صنع القرار السياسي تؤثر في القوى العقلية. وقد نشطت السيكولوجيا السياسية بعد الحرب العالمية الثانية وصارت لها طرائقها الخاصة بالبحث مما يتناسب مع محتواها فمن الطرق (الميثودولوجية) التي اتبعها العاملون في مجالها مثل طرائق تحليل المضمون، المحتوى، تحليل السلوك غير اللفظي، طريقة تجارب المجموعات الصغيرة، طريقة الاقتراع، طريقة تحليل البيانات المسجلة وغيرها. أما محتوى هذا العلم الوليد كما بينته الأبحاث المتعددة والاصدارات التي ظهرت خلال العقود الماضية فيمكن حصره بالآتي: دراسة الفرد باعتباره انساناً سياسياً والعناية بتحليل الشخصية بالاعتماد على ابحاث الشخصية في كل من علم النفس الفردي وعلم النفس الاجتماعي والتربية الاجتماعية السياسية وتكوين الاتجاهات السياسية والمشاركة السياسية فضلا عن سلوك الناخبين والانتماء ومن موضوعاتها ايضاً دراسة الحركات السياسية، والزعيم السياسي، القيادة، الرأي العام، العلاقات السياسية بين الوحدات والعمليات السياسية مثل صنع القرار، الامتناع، التعلم، الصراع، التعبئة ولعل مسألة العنف والارهاب من اهم موضوعات هذا العلم. مع اتساع مجال السيكولوجيأ السياسية ساعد علم النفس على تعميق ايمانها بمقارباته في مستويي التحليل النفسي وعلم النفس الاجتماعي علماًان الفصل بين ميادين علم النفس لا يعني انها لا تتأثر ببعضها بل هي في النتيجة تشكل وحدة متكاملة لتصبح فيما بعد احد العناصر المؤثرة والمتأثرة بالعلوم الانسانية المختلفة من جهة وبسائر مناحي ومجالات المعرفة الأخرى. ولم يعد احد ممن كان يعد علم النفس علماً يصلح للدراسات الأكاديمية فحسب، يستطيع ان يجاهر اليوم بذلك لأن السنوات الأخيرة شهدت اهتماماً ليس قليلاً بنتائج علم النفس. وتبقى الارادة الانسانية وما ترتكز عليه من ضمير ومسؤولية اخلاقيين الرادع الأهم في التعاطي مع اية مقاربة او نظرية بعيداً عن المصالح الدنيئة وشهوات السيطرة والعدوان.
ترتبط السياسة بالسيكولوجيا عبر علاقة عضوية تعود الى البدايات الاولى للفكر الانساني . اي الى ما قبل تشكل المفاهيم النظرية لاي منهما . و بالعودة الى ارسطو نجده يصنف السيوكولوجيا و السياسة و الاقتصاد في اطار العلوم التطبيقية . معرفا الاخلاق على انها علم دراسة السلوك الشخصي ، و الاقتصاد على أنه علم تدبير معيشة العائلة و السياسة على انها علم تدبير المدينة ( الدولة ) . لكن الطابع العضوي لهذه العلاقة يعود عمليا الى حاجة السياسة الماسة لاية وسيلة تسهل الاتصال الذي يحتاج بدوره الى اية معلومة تساهم في اكمال فعاليته و تدعيمها.
هذا وتعود البدايات الحديثة لعلم السياسة إلى مطلع الخمسينيات وهي إقترنت ببدايات علم النفس السياسي. فقد نشرت منذ مطلع هذا القرن العديد من البحوث النفسية –السياسية. التي بدأها فرويد بعودة إلى ما قبل الحضارة البشرية لينتقل بعدها إلى دراسة الأساطير وتحديدا مناقشة الأساطير اليهودية ومسألة التوحيد في كتابه "موسى والتوحيد"ليدخل بعدها مباشرة إلى السياسة في مقالته "أفكار لأزمنة الحرب والموت".ثم كانت دراسات يونغ الشهيرة حول الأساطير واللاوعي الجماعي وعلاقتهما باللاوعي الفردي. وبعدها أتت محاولة إتباع فرويد والمنشقين عنه للتوفيق بين التحليل النفسي والسياسة والنظرية الماركسية خصوصا. كما تجدر الإشارة إلى الكتاب الذي نشره غراهام والاس في العام 1921 تحت عنوان " الطبيعة الإنسانية في ميدان السياسة".
لكن البحث العلمي الحقيقي في ميدان السيكولوجيا السياسة بدأ في الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية. خين تدعمت هذه البحوث بهجرة مكثفة لعلماء االنفس الأوروبيين الهاربين إلى أميركا من الحرب. فبدأت هذه البحوث من منطلقات اتنية (عرقية) وسخرت هذه البحوث لدراسة اللاوعي الجماعي والشخصيات الأممية لأصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها. في محاولة لتسخير سيكولوجية الرأي العام في الإتجاه السياسي المناسب. وهكذا بحيث يمكن إعتبار ولادة السياسة واليكولوجيا السياسية في مطلع الخمسينيات ولادة توأمية. لكن هذه الفترة وتحديدا العام 1952 سجلت ترسيخ العلوم النفسية كعلم له منهجيته الطبية الصارمة. إذ شهد هذا العام ظهور دواء الكلوربرومازين (دواء معقل) الذي كان مقدمة لإرساء الطب النفسي كأحد فروع الإختصاصات الطبية مما أذكى الصراع بين هذا الفرع المستجد ( الذي وجد لنفسه التطبيفات في الميادين السياسية والعسكرية والحضارية....الخ) وبين بقية الفروع المعنية بهذه الميادين. بل إن الطب النفسي بدا وكأنه يحاول وضع النظم الأخلاقية لهذه الفروع وخصوصا السياسية منها. إذ يرى الطب التفسي ضرورة الإفادة من معارفه( وضرورة مساعدة بقية الفروع له) لكي يحقق الضوابط الأخلاقية التالية:
1- إن أية أبحاث تعمل على إحداث تغييرات في الإنسان (مثل التربية العبقرية وأبحاث الهندسة الوراثية والإستنساخ والجراحة الدماغية....الخ). ويجب أن تكون خاضعة لسياسة إجتماعية صارمة تهتم بتوجيه هذه الأبحاث لتحسين شروط معيشة وسعادة الإنسان.
2- أن مثل هذه الأبحاث يجب أن يمنع توجيهها بإتجاه تحقيق تفوق أفراد أو جماعات أو شعوب على حساب غيرها من البشر.
3- يجب النظر إلى جميع محاولات (تحسين) السلوك الإنساني على أنها إعتداء على حرية الشخص. بإستثناء الحالات التي تتم فيها هذه المحاولات بطلب من الشخص نفسه لإستشعاره الحاجة إليها. على أن تدعم الآراء العلمية-الموضوعية هذا الإستشعار.
4- إن "اللاانسنة" المتمثل بإستبدال أعضاء بشرية هامة بأعضاء حيوانية هي مسألة تطرح إشكاليات أخلاقية خطيرة.
5- أن الرغبة الشخصية بالإستفادة من تقنيات معينة لإستغلالها لتحقيق أهداف شخصية من شأنها أن تنسف قواعد السياسة الإجتماعية وأخلاقياتها. الأمر الذي يقتضي التريث في تشريعها لقياس مدى قدرة هذه السياسة على إستيعاب التعديلات. مثال على ذلك أن الدعوة العالمية للحد من زيادة السكان (ومعها دعوة الشعوب لا يتجاوز متوسط أعمارها الأربعين عاما للحد من التكاثر) تصطدم بالرغبات الشخصية في الإنجاب بإستخدام تقنيات طفل الأنبوب أو الإستنساخ أو غيرها.
6- إن أية محاولة لتعديل الشخصية يجب أن تخضع لتحري دوافع هذه المحاولة سواء من قبل شخص أو من قبل الإختصاصي الذي يتولى عملية التعديل.
7- إن تطور تقنية الإتصال (ومعها التجسس على الأفراد) يؤمن مراقبة دقيقة لسلوك الأشخاص مما يزيد من إحتمالات إساءة الإستغلال السياسي لهذه المراقبة ( خصوصا بعد أن نعلم أن دولا نامية عديدة تخضع بشكل جماعي لهذا النوع من المراقبةّ!).
8- أن موضوع ولادة بدون رحم ومعها موضوع الإستنساخ هي مواضيع تلامس حساسيات تحديد الإنتماء العائلي. الأمر الذي يهدد مفاهيم البنية العائلية في المجتمع البشري. وهو تهديد يستحق الدراسة والمناقشة المعمقة.
9- إن محاولات زيادة الذكاء السكاني (نسبة 20%) أو مايعرف بمحاولات إنتاج جيل من العباقرة , وأيضا محاولات زيادة متوسط أعمار البشر بحوالي عشرين بالمئة إضافية , هي محاولات محفوفة بمخاطر الإحتكار الذي يؤدي إلى التفرقة والتمييز العنصريين( العلميين) مما يجعل تكاليف هذه الأبحاث الأخلاقية خارج إطار قدرة البشرية على تحملها. فهي تشجع فرز البشر إلى أذكياء وأغبياء بكا يعني ولادة نوع جديد من الأسباب الممهدة لإنتهاك حقوق الإنسان.
10- ترتبط كرامة الإنسان بقاعدة ذهبية تقول: إن البشر يكونون أكثر فعالية وعطاء(أي أكثر إنسانية) عندما نعاملهم كأحرار مسؤولين متمتعين بإستقلاليتهم الذاتية وبفرادتهم.
11- إن مسألة الحفاظ على التنوع الإنساني ( الجيني والثقافي ) هي مسألة حيوية –محورية. ومحاولة إنتاج مخلوقات مثالية جينيا ( أو ثقافيا عن طريق العولمة) هي محاولة تحرم الإنسانية من هذا التنوع.
12- يجب أن تبقى العائلة الواحدة الرئيسة لتكاثر البشر ويجب الإصرار على عدم إستبدالها بأي من الوحدات المقترحة. وحول حبة الرمل هذ(أي العائلة) أي تطور اللؤلؤة التي تشكل التنوع الثقافي الإنساني. الذي لم تستطع الإقتراحات المطروحة لغاية اليوم أن تأي ببديل له.
وبهذا تبدو العلوم النفسية , الطب النفسي خصوصا , وكأنها خط الدفاع الضابط للأخلاقيات. لكن هذا الضابط لا يشكل سوى قمة جبل الجليد. فمن ناحية يقع الطب النفسي ومعه العلوم النفسية والإنسانية كافة تحت تأثير علوم أخرى مثل الإقتصاد والإتصال والإحصاء. وهذا الأخير بات قادرا على فبركة النتائج بأي إتجاه كان , وباتت الإحصاءات لعبة بدون قواعد( أنظر فصل العرب والعولمة في هذا الكتاب).
ومن ناحية أخرى فقد وقعت العلوم النفسية في أسر الفكر السياسي. فعلاقة هذه العلوم بالفلسفة علاقة قديمة وعضوية ومتبادلة. فلو راجعنا التصنيفات المقترحة للأمراض النفسية لوجدنا أنها متأثرة لدرجة التوحد بالفكر السياسي السائد. فالتصنيف الأمريكي يعتمد المبادئ البراغماتية والظواهرية من خلال تحديده للتشخيص من خلال العوارض. حتى إعتبر بعض المؤلفين يأن التصنيف الأمريكي هو حصان طراودة الذي يحاول الفكر الأمريكي النفاذ من خلاله إلى عقول الأطباء النفسيين حول العالم. فإذا ما أضفنا الوقائع المتوافرة حول أساءات إستخدام الطب النفسي فإنا نجد أن الفن المسمى بالسياسة قد إمتلك القدرة على السيطرة وعلى تسخير العلوم لمصلحته مع بقاء قواعده سرية وعصية على الأرصان في مناهج أكاديمية خاضعة للمنطق العلمي وقابلة للتجريب